الليل والمجنون
المجنون : " أنا مثلك أيها الليل قاتم عار ، أمشي على طريق ناري يمتد فوق أحلام نهاري . وحيثما تمسّ رجلي الأرض ، فهناك تنبثق سنديانة جبارة" .
الليل : "كلا ، لست مثلي أيها المجنون ، فإنّك مازلت تتلفّت إلى وراءك لترى آثار قدميك على الرمال" .
المجنون : "أنا مثلك أيها الليل الصامت وعميق ، وفي قلب وحدتي تتكئ إلاهة تتمخض بمولود علوي تأتلف بكيانه الجنّة والجحيم" .
الليل : " كلا ، لست مثلي أيها المجنون ، فإنّك لاتزال ترتعش أمام الآلام فيهولك سماع أناشيد الهاوية " .
المجنون : " أنا مثلك أيها الليل ، آبد جبّار ، فإنّ أذنيّ مثقلتان بنحيب الأمم المستعبدة والتحسّر على الممالك المهجورة " .
الليل : " كلا ، لست مثلي أيها المجنون ، لأنّك لاتزال تتخذ ذاتك الصغرى رفيقاً وفيّاً ، ولا تستطيع أن تتّخذ لك من ذاتك الجبّارة صديقاً " .
المجنون : " أنا مثلك أيها الليل صارم وفظيع ، فإن قلبي لايطرب إلاّ لرؤية لهيب المراكب المحترقة في البحار ، وشفتيّ لا تستلذّان سوى دماء الأبطال المصروعين في ساحات الوغى " .
الليل : " كلا ، لست مثلي أيها المجنون ، لأن بك شوقاً إلى أخت روحك متسلطاً عليك يسيرك كيف شاء . ولم تصر بعد شريعة لنفسك " .
المجنون : أنا مثلك أيها الليل ، جذل وطروب ، فإن الرجل الذي يرافقني سكران أبداً من الخمرة العذراء ، والمرأة التي تصادفني ترتكب الإثم وهي منشرحة الصدر" .
الليل : " كلا ، لست مثلي أيها المجنون ، لأن روحك مقنّعة بقناع ذي طيات سبع وأنت للان لم تحمل قلبك على كفّك " .
المجنون : " أنا مثلك أيها الليل ، صبور وكئيب . فإن في صدري ألوفاً من قبور المحبين الذين ماتوا مخلصين فحنّطتهم الدموع وكفّنتهم القبلات الذابلة " .
الليل : " وهل أنت مثلي؟ أحقاً أنت مثلي أيها المجنون ؟ وهل تستطيع أن تمتطي العاصفة جواداً وتمتشق البرق حساماً؟ " .
المجنون : "أنا مثلك أيها الليل ، أنا مثلك قدير عظيم . وقد بنيت عرشي على آكام الآلهة الساقطة وجعلت الأيام تمر أيامي صاغرة تقّبل أهداب ثوبي من غير أن تجرؤ على التطلّع إلى وجهي " .
الليل : " هل أنت مثلي يا ابن قلبي الدامس المدلهم ؟ هل أنت مثلي ؟ وهل تخطر لك أفكاري الجامحة أم تتكلم لغتي الواسعة البيان " .
المجنون : " بلى ، إنّنا أخوان توأمان أيها الليل ، فأنت تكشف مكنونات اللانهاية ، وأنا أكتشف مكنونات نفسي
وانا أقول ما أعظمك يا جبران.